السرية والإفصاح في التحكيم.. هل يتفقان أم يتعارضان؟
آلاء الخالدي، طالبة قانون، جامعة الأمير محمد بن فهد
لستَ وحدك من يتساءل عن إجابة السؤال أعلاه فأنا نفسي كنت أجهله أيضاً، وفي رحلتي لمعرفة الإجابة قمت بالبحث والقراءة لخبراء مختلفين وبعدة لغات طرحوا فيها آرائهم المتعددة القابلة للنقاش ولكن الثابت من ذلك هو اتفاقهم على نقطة واحدة وهي أن السرية في التحكيم تعتبر ميزة جاذبة لكلا المستثمرين الأجانب والمحليين.
في الآونة الأخيرة ومع ظهور الشفافية كمتطلب يُلزم الأخذ به في مجالات مختلفة، ثار تساؤل حول تعارض السرية في التحكيم مع واجب الإفصاح ومدى إمكانية إعادة النظر في سرية التحكيم.[1] وتسعى هذه المقالة إلى تحديد ما إذا كانت السرية التي تشكل حجر الأساس في التحكيم هي أمر مطلق أو أن الحد منها سيؤثر سلبًا في انتشار التحكيم كوسيلة مفضلة لحل المنازعات خارج المحكمة.
في الواقع، إن الجدل بين السرية والإفصاح في التحكيم على وجه الخصوص لا يعدُ حديثًا، فمدى ارتباط السرية بالتحكيم تعد مميزة وذلك لأنه يقوم أساسًا على حرية الأطراف في التحكم في عملية التحكيم وخصوصيتها وسرية الإجراءات التي تمر بها، ورغم ذلك فإن في الواقع العملي مازال تطبيق السرية وكيفية فهمها ليست موحدة فقد تعتمد كيفيتها على قانون التحكيم ، وقواعد مؤسسة التحكيم والأحكام التعاقدية التي وضعها الطرفان.[2]
من زاوية أخرى، تعد الشفافية إحدى القيم في المركز السعودي للتحكيم التجاري[3] وتزايدت الدعوة إليها من ِقبل مختصين بالقانون أو حتى مستثمرين وطالبوا برؤيتها تطبق على التحكيم واجراءاته، وترجع مطالبتهم برؤيتها مطبقة على وجه الخصوص لأن إحدى تعاريف الشفافية في التحكيم هو وصول العامة وقدرتهم على حضور جلسات، أو إتاحة القواعد المتبعة في حل النزاع. [4] وبما أن الشركات ومجتمع التحكيم ككل وعلى وجه الخصوص في التحكيم التجاري لا يمكن له أن يسبح عكس التيار فوضعت المؤسسات التحكيمية قواعد واجبةً الأخذ بها للشفافية وقيل بأنها مطلوبة لنجاح التحكيم وأنها تعد طريقة فعالة وموثوقة لتسوية المنازعات.
وخلاصة القول هو أن مؤسسات التحكيم تميل إلى الحفاظ على خصوصية جلساتها والعمليات الداخلية لهيئة التحكيم وسرية اجراءاتها المتبعة. وفي نفس الصدد فإنها تأخذ وتسير اجراءاتها وفقا لقواعد الأونسيترال للإفصاح والشفافية[5].
وتماشياً مع ماتم ذكره آنفاً، أود القول بأنه ورغم القواعد التي تم وضعها لضبط كلا المبدأين (الإفصاح والسرية)، سيبقى هنالك خطر التعارض بينهما، كما في حالة تعيين محكم في أكثر من عملية تحكيم مترابطة، حيث يلتزم بسرية كل تحكيم، في حين يتوقع منه الإفصاح لأطراف التحكيم الثاني عن وجود التحكيم الأول . كما أن الشركات تلتزم بالإفصاح والشفافية عن الوقائع الجوهرية التي تتعرض لها، والتي قد يكون منها وجود نزاع محال إلى التحكيم وقيمته، وهي أمور مشمولة بسرية التحكيم كقاعدة عامة.
فمن وجهة نظري بأنه مهما تعددت القواعد والمعايير لضبط كلا المبدأين والحرص على الحياد عند تطبيقهم سيبقى خطر الانحياز لمبدأ دون الآخر احتمالاً وارداً لأنه يصعب على المحكمين مهما كانت استقلاليتهم أن يقوموا بذلك. وقولي ذلك ليس من شأنه التقليل من نزاهة المحكمين بل لأنه في أحيانٍ عدة وذلك عندما يتعمق الأطراف والمحكمين في صلب النزاع يصعب عليهم تحليل مدى لو كان هذا التفصيل يتطلب الإفصاح أم إبقاءه سرياً.
ثار ذلك التعارض في قضية [6]Halliburton v Chubb . وتتمحور وقائع القضية عن الحادثة الشهيرة لشركة هاليبرتون وانفجار جهاز حفرها Deep Water Horizon التي وقعت قبل حوالي عشر سنوات في خليج المكسيك، واتجهت الشركة للتحكيم لمحاسبة شركة التأمين والمطالبة بالتعويض لما حصل من خسارات مادية وتلوثات بيئية، وبعد محاولات عدة للاتفاق على مبلغ التعويض. ظهر بأن أحد المحكمين في القضية قد تم تعيينه في قضية أخرى بناء على اقتراح شركة التأمين Chubb مما جعل شركة هالبيرتون ترى احتمالاً بتحيز المحكم ضدها وطلبت عزله. والمثير للجدل بهذه القضية هو أن المحكمة العليا كان حكمها عدم إقالة المحكم لأنها لم تجد في الوقائع أي تحيز واضح، وكان إقرارها بأنه لا مانع أن يشارك المحكم بنزاع أو أكثر بشرط أن يتم إفصاحه عن ذلك وأن هذا لا يتعارض مع مبدأ السرية.
وفي الختام، يمكنني القول بأن الجدل بين السرية والإفصاح في التحكيم التجاري على وجه الخصوص ليس حديثًا، فمهما تعددت القواعد ووضعت معايير لضبطهم في التحكيم لا يمكننا تأكيد تطبيقها على نفس الوجه المأمول، إلا أنه مازال هنالك الكثير من الطرائق الممكن اتخاذها لتحسين جودة عملهم مع بعضهم البعض ضمانًا لاستمرارية عمل التحكيم على أرقى المستويات. على سبيل المثال، من الممكن أن يخلق مركز التحكيم لجنة مختصة ومحايدة هدفها متابعة جميع المراحل التحكيمية لتضمن تحقيق كلا المبدأيين على الشكل الصحيح، وأن يكون لها صلاحية الإفصاح عن أي مخالفة في تطبيق إحداهما أو كلاهما، فذلك من وجهة نظري قد يضمن سلامة تطبيق الشفافية والسرية كون أن كثيرا من القضايا التحكيمية تتسم بالشفافية والسرية في آن واحد. أعتفد أن تطبيق أحد هذه الاقتراحات المبتكرة تجعل التحكيم السعودي متفوقاً بمراحل بما يتعلق بهذه المسألة ويجعلها قدوة وسابقة للدول الأخرى التي تأخذ بالتحكيم.
المصادر
[1] Transparency in International Commercial Arbitration. Page 1302. Retrieved from: Transparency in International Commercial Arbitration (psu.edu) .
[2] Confidentiality at risk: The interdiscursive construction of International Commercial Arbitration. Page 357. Retrieved from: Confidentiality at risk: The interdiscursive construction of International Commercial Arbitration (pmu.edu.sa) .
[3] الدليل التعريفي. المركز السعودي للتحكيم. ص3. مسترجع من: SCCA_Profile_AR_2021.pdf (sadr.org).
[4] Transparency in International Commercial Arbitration. Page 1309. Retrieved from: Transparency in International Commercial Arbitration (psu.edu)
[5] قواعد الأونسيترال للتحكيم. الأمم المتحدة. مسترجع من: قواعد الأونسيترال للتحكيم | لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي (un.org)
[6] Halliburton Company (Appellant) v Chubb Bermuda Insurance Ltd. UK Supreme Court. Retrieved from: Halliburton Company (Appellant) v Chubb Bermuda Insurance Ltd (formerly known as Ace Bermuda Insurance Ltd) (First Respondent) (supremecourt.uk)
22-Mar-2022